“أعطني ساندويش شاورما (مْسئْسَئَة)1 مع صحن ثوم (ثومية) وسأحكم العالم” – (من أقوال أحد العظماء)
قيل الكثير والكثير عن هذه اللُفافة العظيمة بنوعيها الدجاج واللحم، مدحها النُقّاد وتغنّى بها الشعراء وكان لها التأثير الكبير في تدوير الكروش وتحريك الجيوش وفناء العروش. لن أتكلم الآن عن مذاقها ومواصفاتها، بل سأروي لكم قصة قصيرة حدثت معي عندما كنت طالباً وتعلمّت منها درساً في التسويق والاقتصاد السلوكي.
في منطقة تسمى المزّة القديمة وفي مدينة دمشق الحبيبة يوجد شارع ضيّق ومزدحم بالكاد تَمرُّ به السيارات باتجاهين يُدعى شارع الشاورما. نعم، وكما دار في مخيلتكم الآن، شارع مليء بمطاعم الشاورما الصغيرة مُصطفّة على جانبيه وتفوح من هذا الشارع أذكى وألذّ الروائح الممزوجة بين الدجاج واللحم. وُصِف قديماً بشارع الأحلام، وصنّفه البعض بأنه أهم شارع في المدينة.
كنت أمرُّ بشكل شبه يوميّ من هذا الشارع، كونه قريبٌ نسبياً من مكان سكني، وغالباً ما يكون بصحبتي بعض الأصدقاء أو ما أسميهم بشركاء الطعام. إلّا أن هذه المرّة ولحسن الحظ لم يكن معي أحد. فكانت فرصتي لاختيار المطعم بنفسي بدون الدخول في جدالات عقيمة مع الأصحاب، والتي غالباً ما أخسرها كوني أكره الجدال والإطالة فيه.
أخيراً سأختار، سأعبر الشارع إلى الطرف المقابل مبتعداً عن هذا المطعم الذي حفظت فيه وجوه العاملين جميعهم، ووجوه الزبائن، وحتى القطط التي تقف أمامه منتظرة قطعة لحم أو دجاج تسقط من زبون هي نفسها دائماً.
كانت حججهم دائماً، أن هذا المطعم، هو المطعم الوحيد الذي يقف الزبائن أمامه بالعشرات، متجمهرين حوله بشكلٍ فوضوي، منتظرين دورهم، لعابهم يسيل أثناء مشاهدة سيخ الشاورما وهو يدور ويدور ويدور والدهون تنساب منه بشكل استفزازي لعصارات المعدة، لديه أكبر سيخ شاورما في الشارع كله. فعلياً، هو المطعم الأكثر شهرةً في هذا الشارع.
نظرت هنا وهناك، وفي تحدي صريح لأصدقائي قررت الذهاب والأكل عند أقلّ المطاعم شهرةً، ولديه أصغر سيخ شاورما، لا يوجد زبائن حوله، حتى القطط لا مكان لها في هذا المطعم البائس. هناك سأعلن تمردي، هناك سأخوض تجربتي الأولى بعيداً عن ذاك المطعم.
السلام عليكم، أريد (صاروخ)2 شاورما. تكرم عيونك يا غالي، أحلى ساندويش لأحلى شب، أجابني.
التفتَ إليّ وتكاد الدمعة تنفر من عينه قائلاً: هل تعلم أن هذا أول طلب عندي في هذا اليوم، فأنا لم أبع أي ساندويش إلى الآن، وكان الوقت قد اقترب من العصر. لا أدري كم مكثتُ وأنا انتظر تجهيز هذا الصاروخ اللحمي، هل كان البطيء متعمداً من قبل البائع بهدف الفضفضة، أم كان لإبقائي واقفاً أمام مطعمه لأطول فترة ممكنة كي يرى الناس أن لهذا المطعم البائس رواد أيضاً.
فجأةً وبحركة غير متوقعة، قال لي افتح فمك بسرعة، رأيت يده السمينة وهي ممتلئة بشاورما اللحم تتجه الى فمي لاقتحامه. لا توجد متعة أكثر من متعة اعتصار اللحم أثناء المضغ. وبينما كنت أحاول ابتلاع هذه اللقمة قال لي: من الآن وصاعداً أنت زبوني المدلل، في كل مرة تأتي سوف أُطعمك بيدي.
لا أدري كم مكثت وأنا انتظر تجهيز هذا الصاروخ اللحمي، الزبائن بدأت بالتجمع حولي، الطلبات بدأت تنهال عليه، أخيراً حَصلتُ عليها.
في اليوم التالي، قررت أخوض التجربة ذاتها، وخاصّةً أن طعم الشاورما اللذيذ لا يزال في فمي وذاكرتي. نظرت من بعيد، المشهد ذاته، المطعم المشهور والزبائن حوله، المطعم البائس خاصتي خاوياً كمعدتي الآن.
بدأ بتجهيز الصاروخ، الحوار نفسه، اللقمة نفسها، الطعم الرائع، بدأ الزبائن بالوصول، الطلبات، الازدحام.
بعد أسبوع، هذه المرّة كنت ماراًّ بالشارع بشكلٍ بريء، المشهد نفسه، ولكن مطعمي البائس مغلق، توجد ورقة على باب المطعم (المطعم مغلق للصيانة) وهي عبارة لَبِقَة معروفة معناها أن المطعم أُغلق ولن يفتح مرة أخرى. سألت جيرانه، أين أبا أحمد، بائع الشاورما؟ أشاروا لي إلى الورقة، فهمت.
بدأت بالتفكير، يا إلهي، لماذا فشل المطعم البائس مع أن طعم الشاورما لديه لذيذ جداً وحجمها كبير، بينما يزداد المطعم المشهور نجاحاً يوماً بعد يوم مع أن حجم الساندويش عنده أصغر والطعم عادي؟
كوني طالب، وهي بالمناسبة ليست تُهمة، فلم تكن لدي المعلومات ولا الخبرة في علم التسويق أو حتى بمفهوم الاقتصاد السلوكي. مضت الأيام، ولم أتمكّن من الوصول الى جوابٍ لسؤالي. إلى أن قابلت بالصدفة أحد الأشخاص وكان صديقاً لصديقي وجالساً معه في الحديقة. وكما هو معروف عن الشباب والمواضيع التي تدور بينهم (رياضة، بنات، أكل) وردت في سياق الأحاديث كلمة شاورما، وهنا انتهزت الفرصة لأتكلم عن السؤال الذي يحيرني والذي لم أحصل على اجابة له بعد.
ابتسم صديق صديقي وقال، بسيطة، أنا عندي الجواب للشق الأول من سؤالك. أبي يعمل في ذاك المطعم المشهور، والموضوع ببساطة أن صاحب المطعم وعند افتتاحه كان يجمع أصدقائه وأقربائه يومياً عنده في المطعم ويطعمهم مجاناً. فكلّما مرَّ شخص ما من جانب المطعم يشاهد هذا التجمع والتجمهر حول المطعم فيعتقد أن هذا المطعم مشهوراً وأن طعم الشاورما عنده لا بد أن يكون مميزاً وإلا لن يقف عنده أي زبون. وهكذا استمر الى أن أصبح المطعم بالفعل مشهوراً وبدأت الأرباح تنهال عليه.
الآن أدركت وفهمت الشق الثاني من سؤالي. بالنسبة للمطعم المشهور، فقد لعب على سلوك البشر وغريزة القطيع وانجذابهم اللا إرادي نحو التجمعات، وقناعاتهم بأنه لا يمكن أن يجتمع الناس على شيء غير جيد أو مميز.
أما في حالة مطعمنا البائس، فقد بدأ الزبائن بالانجذاب نحو المطعم بعدما رأوني وأنا التهم تلك اللقمة اللحمية من يد معلّم الشاورما. فهذا شيء غريب وغير شائع في تلك الفترة. وكان هذا سبباً رئيسياً لإعلان انشقاقهم عن المطعم المشهور وإعلان ولائهم المؤّقت للمطعم البائس.
لقمة مجانية من اللحم، سيخ شاورما صغير على ما يبدو بسبب كثرة الطلبات… ممم، يبدو أن هذا المطعم مميز ومشهور.
المحزن في القصة، أن صاحب المطعم البائس لم يُدرك أن سبب تجمع الزبائن عند وجودي عنده ليس بسبب وسامتي أو شُهرتي 😉 ، إنما بسبب الشيء المميز والغريب الذي قام بفعله بشكل عفوي (اللقمة المجانية). ولو استمرَّ على هذا النحو لكن الآن ينافس المطعم المشهور.
الشاهد من القصة، كلمة واحدة فقط، التسويق. فكلما كانت لديك الإمكانية لفهم سلوك البشر ورغباتهم (الاقتصاد السلوكي) كلما استطعت تسويق عملك، منتجك، خدماتك إليهم.
1 (مسئسئة): أي مُشبعة بعصارات الدهون ومرق اللحم أو الدجاج.
2 (صاروخ): يقصد به ساندويش شاورما كبير جداً
قصة مشوقة جداً خاصة وأن لي تجارب في هذا الشارع، كنت أشتري من بائع شاورما اسمه الربيع وأصبح اسمه فيما بعد الصديق. فعلاً السير في هذا الشارع بمنطقة الشيخ سعد بالمزة يسيل اللعاب بسبب منظر أسياخ الشاورما والرائحة.
صحيح، أيام جميلة ومأكولات لذيذة