المشعوذ وأنا
ها هو الصيف قد بدأ، الفصل الأهمّ في السنة بالنسبة للطلاب. الآن تبدأ النشاطات والرحلات والألعاب للكثيرين منهم، إلاّ أنه سيكون للبعض فترة تحضيرية للسنة الدراسيّة القادمة، وخاصةً لأولئك الذين انتهوا للتوّ من الصف الحادي عشر، وأنا منهم.
تبّاً، عليّ أن أدرس في الصيف أيضاً! فالعُرف عند الطلاب وجود فترتين في السنة (الشتاء للدراسة، الصيف للعطلة). إلاّ أنني سأقوم بكسر العُرف هذه المرّة. بالتأكيد فالبكالوريا تستحق هذه التضحية.
إنه اليوم الصيفي الأول لي في المعهد، يجب عليّ الآن كطالب نجيب التحضير للسنة المصيرية القادمة. إلاّ أن وجود (ماهر) معي هوّن عليّ من فكرة الدراسة في الصيف. لمن لا يعرف ماهر، فهو ذلك النوع من الطلاب الذي كلما تسأله عن مدى استعداده للامتحان أو المذاكرة يقول لك لم أدرس جيّداً أو درست قليلاً ثم بعدها يحصل على الدرجة الكاملة. ماهر كان يَكذب بغباء، فهو يعرف أنّ شباك غرفتي يُطّل على غرفته، فالمسافة بين البناءين قريبة نسبياً، فأنا أقضي طوال الليل بمراقبته. هو يدرس وأنا أراقب، ليس لشيء، ولكن لأكشف كذبه في اليوم التالي.
قررنا الذهاب معاً الى المعهد، جلس بجانبي في الحافلة ملاصقاً للشباك، طبعاً انتزع مني مكان الجلوس بسرعة، لا أدري لماذا يُصِرُّ على استفزازي دائماً. كل شيء بدا طبيعياً ومثالياً في هذا اليوم الصيفيّ. الحافلة مُزدحمة، الجو حار، رائحة العَرَق تفوح في الأجواء، الجميع يمسك بتذكرة الحافلة مُترقّباً وصول المفتّش.
توقفت الحافلة عند المحطة، إلاّ أن المفتش لم يصعد اليها، هناك شيء أسود غريب يصعد الى الحافلة. ماهر معتاد على مراقبة أشكال الناس والتعليق عليها بسخرية، إلا أنه اليوم بدا لي مؤدباً وهادئاً.
انطلقت الحافلة باتجاه المحطة التالية، وفجأة ظهر ذلك الشيء الأسود بجانبي وبدأ بدفعي باتجاه ماهر، كتلة من العظام تحاول أن تدفعني، ولكن بدون قوّة فعلية. حاولت النظر إلى الأعلى لأجد كومة من الشعر الأبيض الخشن المجعّد تلامس وجهي، على ما يبدو هي لحية لذلك الشيء. نظرت إلى الأمام فأنا لا أستطيع النظر إلى الأعلى بسبب وجود هذه اللحية فوق رأسي مباشرةً، وجدت أمامي يداً نحيلة أستطيع رؤية العروق والعظام منها، أظافر سوداء مسنونة كأظافر الساحرات، هنا صرخت بأعلى صوتي (ابتعد عني).
الحافلة مزدحمة، أعداد الركّاب كبير جداً، وهذا الشيء واقف على يميني، وماهر جالس بجواري، ومع أنني صرخت بأعلى صوتي إلا أن أحداً لم يسمع! يا إلهي، كيف لم يسمعني أحد؟ حتّى ماهر، ينظر من الشباك ولم يلتفت إليّ أبداً.
دقائق عصيبة مرّت وذلك الشيء يكاد أن يجلس فوقي، يلبس عباءةً سوداء ذات رائحة كريهة ويرتدي ثلاثة أطواق معلّق بكل طوق رمز، الهلال والصليب ونجمة داوود. الصمت يسود المكان، وماهر لا يزال غير مهتماً أو غير منتبهاً لا أعرف. تركيزي منصباً على هذا الشيء، لا أستطيع التحدث إلى ماهر أو طلب النجدة منه، كأني في حُلمٍ أو كابوس.
بدأ بقراءة القرآن وتحديداً سورة الطارق، يا إلهي، إلى ماذا يُلمِّح؟ كيف عرف اسمي؟ انتهى من قراءة السورة ثم سألني، كيفك حالك يا طارق؟ الدم جفّ في عروقي، ماهر لا يزال ينظر من الشباك، أجبته بصوت منخفض مرتجف (الحمد لله).
قال لي، ما رأيك أن تأتي معي؟ لا شكراً، أجبته. أردف قائلاً، سنذهب إلى مكان جميل ونتحدث. قلت له بصوت أعلى هذه المرة (ابتعد عني) وكررتها أكثر من 3 مرات، إلا أن أحداً لم يسمعني ولا حتى التفت إليّ، وماهر لا يزال ينظر من الشباك. وهنا بدأ بدفعي مجدداً وبشدّة وأصوات عظامه كأنها تتحطم وتتكسر.
غريبٌ جداً، نظرت إلى وجوه الناس القريبة مني، لم أجد أحداً مهتماً بما يحدث معي أو حتى يسمع صراخي، وماهر لا يزال ينظر من الشباك لم يلتفت إليّ حتى.
توقفت الحافلة أخيراً عند المحطة التالية، وهنا ابتعد عني ذلك الشيء وشقّ جموع الركاب ونزل من الحافلة مبتعداً بشكل سريع. راقبته من شباك ماهر وهو يمشي بسرعة، بدا لي أنه شيخ مشعوذ، قصير القامة، نحيل جداً، لحيته طويلة، شكله مرعب، إلا أنه لم يُلفت نظر الناس إليه.
هذا الشيء، ليس بجنيّ ولا بشيطان ولا روح شريرة، هو بشريّ، وملموس، بدليل أن الركاب افسحت الطريق له عندما نزل من الحافلة، وعندما سألت ماهر: هل رأيت هذا الشيء يتكلم معي؟ قال لي، أنه أحسَّ بوجود حديث بيني وبين شخص ما. إلا أنه لا يدري لماذا لم ينظر إلينا. قلت له: ألم تسمعني أصرخ؟ قال: لا؟ سمعتك تُتمتم بصوت منخفض.
كانت هذه الحادثة وهذا المشعوذ فرصة كبيرة لماهر للسخرية، إلا أن شيئاً ما منعه من النظر إليّ أو حتى سماع صراخي مع العلم أنه جالس بجانبي.
بعد مضي عام تقريباً على هذه الحادثة، انا الآن أمشي في نفس الشارع الذي مشى فيه المشعوذ، هل أراه مجدداً؟ وبينما كنت أفكر بتفاصيل الحادثة لمحته من بعيد يمشي مسرعاً، غريبٌ أمر سرعته، فهو ضعيف للغاية ليمشي بشكل سريع، مشيت خلفه بسرعة، إلا أنني أبقيت مسافة أمان كبيرة بيني وبينه. لا أريد أن يشعر بي أو يراني، فجأة انعطف نحو شارع فرعي صغير، وهنا قررت ألاّ أتبعه، لا أريد تكرار الحادثة السابقة، لعله رآني ويريد استدراجي. ابتعدت عن المكان بسرعة وعدت الى البيت.
هذه القصة حقيقية حدثت معي عندما كنت طالباً، والى الآن لا زلت أفكّر في أمر هذا المشعوذ، ماذا كان يريد مني؟ وكيف عرف اسمي؟ ولماذا لم يسمعني أحد عندما صرخت؟