قصص قصيرة

انتبه من فضلك.. السيارة ترجع إلى الخلف

إنّ نِعم الله علينا لا يمكن حصرها أو عدّها، فهناك نِعم مرئية ومحسوسة كالصحة والبصر والرزق وغيرها، وهناك نِعم لا يمكن اكتشافها إلاّ في أوقات معينة وظروف خاصّة. فعلى سبيل المثال، الصداقة هي من النِعم الكبيرة التي ينعم بها الله علينا. فيبقى الانسان طوال حياته يجمع الأصدقاء حوله ويُنمّي ويزيد من علاقاته الاجتماعية، فهو في النهاية كائن اجتماعي مفطور على العيش والحياة مع الآخرين.

إلاّ أن وجود عدد كبير من الأصدقاء حولنا لا يعني بالضرورة أنهم أصدقاء حقيقيين. أي أن صفات الصّديق الصّدوق لا توجد إلا في قلّة القلّة من الأصدقاء، وهم الصَفوة.

لِنعد إلى موضوع القِصّة (انتبه من فضلك السيارة ترجع إلى الخلف). إذا لم تصل فكرة العنوان إليك/ي فاسمع التسجيل الصوتي التالي.

حسناً، ما سمِعته أعلاه هو الصوت الذي يصدر عند رجوع السيارات إلى الخلف وأقصد تحديداً السيارات العمومية (التاكسي). فقد انتشرت هذه الموضة وشاعت في بعض الدول العربية وتحديداً في تسعينيات القرن الماضي. وهي إنتاج صيني بامتياز.

هذا التسجيل، يعنيني كثيراً، وله ذكرى جميلة جداً معي. فهو بطل قصتنا هذه والتي اكتشفت من خلالها صفوة الأصدقاء.

كأيّ شاب يمر في هذه المرحلة العمريّة، مرحلة التحوّل الفيزيولوجي والتكوين الجسدي، المرحلة التي تبدأ فيها بعض الشعيرات بالظهور ما بين الأنف والشفّة العلوية مع تحوّل جذري في الصوت أقرب ما يكون الى صوت فتاة ملبوسة وهي تتكلم بصوت رجل.

كنت أقف هناك، في نفس المكان المعتاد، أسفل البناء الذي أسكن فيه، البناء الأخضر ذو اللون المميز في المنطقة كلها والذي كان عبارة عن علامة مميزة وسهلة للاستدلال بها. أقف مع صديقاي المُتحوّلان أيضاً، واللذان ابتدأت معهما بتكوين صداقاتي وعلاقاتي الاجتماعية الأوسع. كان الجو صيفياً بامتياز والليل في بداياته، كل ما حولي كان مُهيأً لحدثٍ كبير.

اقتربَ من باب البناء الرئيسي ثلاثة شُبّان، على ما يبدو من النظرة الأولى أنهم أتمّوا مرحلة التحوّل بنجاح. ملامحهم أصبحت رجولية وأجسادهم مزيّنة ببراعم العضلات. أشاروا إليّ بالقدوم، ترددت للحظة، فأنا لا أعرفهم، ويبدو أن نواياهم ليست بريئة. أنا الآن واقفٌ معهم، أصدقائي خلفي، أشعر قليلاً بالأمان، سألتهم ببراءة، من أنتم وماذا تريدون؟

أنا ألعب الكاراتيه، وأنا ملاكم، أما الثالث وكان أكبرهم حجماً وملامح وجهه أكثر قسوةً وبراعمه مثمرة، قال لي: أنا أشهر من وجّه صفعات الى الوجه في المنطقة كلها.

كانت هذه آخر جملة أسمعها في تلك اللحظة، ثم طنين حاد وقوي في أُذنيّ، سوادٌ حالك في عينيّ، أتلقى الضربات من كل مكان. حاولت الدفاع عن نفسي، إلا أن تزاحم الأيادي من فوقي حال دون ذلك.

استجمعت نفسي، نهضت، أين صديقاي؟ لا زالوا في نفس المكان، آخذين وضعية المزهرية، مراقبين للحدث من بعيد.

لِنعد من جديد إلى موضوع القِصّة (انتبه من فضلك السيارة ترجع إلى الخلف).

مضى عام أو أقل على هذه الواقعة، الزمان الواحدة ظهراً، المكان في شارع يبعد قليلاً عن مسرح الحدث القديم. أمشي برفقة شخصين آخرين، لن أتجرأ بعد الآن على تسميتهم أصدقاء. تأتي سيارة تاكسي مسرعة بشكل جنوني تكاد تصدمني، ساد السكون، اختفت أصوات الزحام، صرخت بصوتٍ عالٍ: (انتبه يا غبي… غبي….. غبي) وكأنني أصرخ داخل كهف.

لا أدري، لماذا ساد السكون مرة أخرى. فجأةً توقفت سيارة التاكسي على وقع صدى كلمة غبي، بَدأت السيارة بالرجوع إلى الخلف مع صوت التسجيل:

لن أنسَ هذا التسجيل أبداً، لقد قالت لي مشكورةً: “انتبه من فضلك”، هي بالطبع لم تكن تقصد أن أنتبه من السيارة، لقد كان قصدها الانتباه مما يوجد داخل السيارة. تَوقّفتْ السيارة على بعد أمتار قليلة من مكاننا. كانت السيارة صغيرة نسبياً، إلاّ أن مفهوم الحجم والنسبية تم نسفه بعدما ترجّل السائق من السيارة. لا يمكن وصف ذلك الشيء الذي كان يقود السيارة، كيف دخل إليها أصلاً؟

هرول إلى الصندوق الخلفي للسيارة وأخرج منه عصاً غليظة، هي أداة معروفة للجميع، يستخدمها السائقين في تصفية الحسابات أحياناً مع الزبائن. اتجه نحونا، على ما يبدو الهدف واضح له… أنا

قررت ألاّ أخوض تجربة جديدة مع العصا بمفردي، يكفيني ما جرى لي سابقاً وتخاذل أصدقائي حينها. هممت بالانسحاب التكتيكي، إلاّ أن يداً أمسكت بيدي ومنعتني من ذلك. وائل، اترك يدي فأنا لن أستطيع مواجهة هذا الوحش بمفردي.

قال لي: ومن قال لك أنك ستواجهه بمفردك أصلاً؟ لا عليك، أنا وغياث سنقوم بما يلزم وأنت راقب فقط. قلت له إذا كان ولا بُدّ، لنتقاسم الضربات التي سنتلقاها سويةً.

لم يشهد التاريخ معركةً أسرع من هذه المعركة. فجأةً انقلبت الموازين، العصى الغليظة بيد وائل الآن، كيف أصبحت بيده؟ حقيقةً لا أعرف. هرب السائق مهرولاً نحو السيارة، وانطلق بعيداً.

اذا ما قارنّا بين الحادثتين، سنجد الفرق واضح بين من تخلّى عن نصرتي في لحظات كنت بأمس الحاجة للمؤازرة والمساندة، وبين من وقف جداراً وحائلاً بيني وبين الخطر القادم إليّ وكان مستعداً لتلقي الضربات عني.

كلمة صديق لا تُطلق على كل شخص نعرفه، نحن نملك الكثير من المعارف والعلاقات، ولكن لدينا القليل جداً من الأصدقاء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!